كلمة المدير العام فى البحث العلمي
عانى البحث العلمي كثيرًا من افتقاره إلى من يهتمون به، ويأخذون على أيدي طلبته للنهوض به، والإبداع فيه، خصوصًا في وطننا العربي، الذي ما أولى اهتمامًا بالبحث العلمي بقدر ما أولى اهتمامات بالفنون والمسارح والندوات الروتينية، واستقبال الضيوف، والاهتمام بالصالح الخاص. وكان من أبرز قضايا إغفال البحث، قضية عظيمة، هي قضية دينية بحتة، غفلت عنها كثير من الدول قصدًا وبغير قصد، وهي قضية تفسير القرآن الكريم، ودراسة الشرائع السماوية في تراث أصحابها!!
وتكمن القضية في أنه لم يجد علم التفسير أحدًا يهتم به كما حظي علم الحديث وعلومه، أو علم الفقه وأصوله، فتعددت التفاسير الإسلامية للقرآن الكريم، وتضاربت كثير من الأقوال، ونقل هذا عن ذاك، وصار تعدد النقل إجماعًا!!. غير أن المشكلة لا تكمن في تعدد التفاسير وتنوعها، بل ولا في تضاربها أو اتفاقها بين الحين والآخر، بل تكمن في أن القرآن الكريم قد قصَّ على العالمين قصص كثير من أنبياء الله عز وجل من لدن آدم حتى محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وكان من إعجاز القرآن أنه جاء مجمل غير مفصل في كثير من هذه القصص، فلا تجده يسهب في بيان الأسماء أو الهيئات، أو اللغات التي تحدث بها هؤلاء الأنبياء أو أقوامهم، بل والأعلام الأماكن.
وهذه القصص بطبيعة أمرها موجودة عند غير المسلمين من أصحاب الشرائع والديانات السماوية، وفيها إسهاب وتفصيل، بل وزيادات كثيرة تخطر أحيانا على القلوب، ولا تخطر في كثير من الأحيان!!. الأمر الذي انتقل إلى المسلمين وكثير من علمائهم، فتأثروا به ونقلوه إما نقدًا وإما استئناسًا وإما استشهادًا، حتى اختلط الأمر على عوام الناس بل وخواصهم فيما بعد، وظنوا أغلبه تفسيرًا مكملًا لحوادث القرآن وقصصه!!.
ولم أجد فيما أعرف متخصصًا أخذ على عاتقه بيان قصص القرآن في الشرائع السماوية في ضوء اللغة العبرية واللغة السريانية وآداب هاتين اللغتين؛ الأمر الذي يوضح لنا كثيرًا من المبهمات، ويوضح في سلاسة وقبول إعجاز القرآن وصدق رسالة النبي العدنان صلى الله عليه وسلم.
وترتبط قضية التفسير هذه ارتباطًا وثيقًا بقضية الأديان ودراستها، خصوصًا توفر اللغتين العبرية والسريانية. وقد أخذت على عاتقي منذ زمن بعيد هاتين القضيتين، ووفقني الله عز وجل إلى التحرك قدمًا نحو خطوطهما العريضة، فكان من منته أن هيئت لغتي العبرية التي تخصصت فيها في قسم اللغة العبرية كلية اللغات والترجمة جامعة الأزهر الشريف، هيئتها لدراسة التفسير والأديان في آن واحد، خصوصًا وقد تعلمت السريانية أيضًا، وفهمت كثيرًا في قواعدها وآدابها، وكانت الخطوة الناجعة الناجحة هي تسجيل درجة التخصص (الماجستير) في موضوع يحقق هذا الحلم، وهو: (قصص سورة الكهف في الديانات السماوية الثلاث، دراسة تاريخية تحليلية نقدية مقارنة، في ضوء التراث الديني اليهودي والنصراني والإسلامي والتاريخ والآثار)، وكانت النتيجة مثمرة بفضل الله وتوفيقه، حيث ظهور كثير من الحقائق الخفية، والنتائج المبهرة، التي لم تكن لتكون إذا لم يتم دراسة هذه القصص بهذا المنهج الفريد.
وبعد هذه المرحلة، كان من الضروري ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغات المختلفة، ترجمة صحيحة من خلال التوصل إلى أصح المعاني لآيات القرآن الكريم، وقصصه، والتي يضمن لها المنهج الأول سلامتها وصحتها من الإسرائيليات أو الإبهام. فعزمت على جعل دراسة الدكتوراة (العالِميَّة) في أمر هذا المنهج الآخر، وهو التوصل إلى منهج علمي صحيح قائم على منهج التفسير والأديان السابق، مستخدمًا اللغة العبرية نموذجًا لترجمة معاني القرآن إليها، وكان ذلك في موضوع بعنوان: (الآيات القرآنية الواردة عن رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم في ترجمتي أهارون بن شيمش وأوري روبين إلى اللغة العبرية، دراسة تحليلية نقدية مقارنة).
ومن هنا جاءت فكرة هذه المؤسسة العلمية، وهو تكوين فريق علمي ناجح يخدم تحقيق هذا المشروع العلمي الضخم، الذي يعني بتطبيق هذين المنهجين على كامل القرآن الكريم، وكانت العقبة التي كانت ولا تزال في الوطن العربي، وهي أحادية العمل، وعدم وجود جهات قومية أو دولية تتبنى مثل هذه المشاريع أو غيرها، والتي بلا شك في حاجة إلى كثير من المادة والطاقة لجمع الكتب والمراجع، وتوفير الباحثين الناجحين المتميزين. الأمر الذي وصل بنا إلى إنشاء هذه الشركة التي تقوم بدءًا على خدمة البحث العلمي في مختلف تخصصاته، والترجمة إلى اللغات المختلفة، وعقد الدورات التدريبية، ونشر الأبحاث العلمية، وتوفير الكتب والمراجع القديمة والحديثة بما يتوافق مع طلب عملائنا الكرام، لنحقق أولا دافعية في تحسين البحث العلمي ومناهجه، والنهوض به من خلال النهوض بالباحثين، وأيضًا لإتمام هذه المشاريع الضخمة، وهي: مشروع تفسير القرآن الكريم من خلال عرض قصصه وأحداثه على تراث السابقين في لغتهم الأصلية وآدابهم. ومشروع دراسة الشرائع السماوية بذات المنهج. وترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة العبرية وغيرها بذات المنهج.
كلمة فى الهدف المنشود من الطباعة
عرف العالم العربي والإسلامي الطباعة والنشر منذ عشرات السنين، ونهضت هذه الحرفة عامًا بعد عام، حتى صارت الطباعة والنشر منارة العلوم على الإطلاق. وقد لاقت جميع المطبوعات قبولًا عند جميع فئات الناس قديمًا؛ ذلك لوجود الهدف الواضح من حرفية الطباعة والنشر، وهو توعية الناس، وإيصال العلوم لهم سهلة طرية دون تعب أو عناء، خصوصًا في ظل وحدة العلماء، ودعوتهم جميعًا إلى ضرورة العلم، وإرشاد الناس إلى طريقه، وبيان كيفية الأخذ به، دون منازعات أو خصومات سياسية أو حزبية.
في الوقت نفسه؛ فإن الأمة العربية وإن كانت قد عرفت الطباعة متأخرًا، إلا أنها من أولى الأمم التي اهتمت بالتعليم، وتنافس الحكام عقودًا طويلة متعاقبة في إبراز فترات حكمهم من خلال النهضة بالعلم والعلماء، فعقدوا له الدواوين، وأنشأوا المدارس، وأقاموا للشعر أنديته، وكلفوا أصحاب اللغات تعليم أبناء الأمة مختلف اللغات، وقاموا على حركات الترجمة من تراث اليونان والسريان وغيرهم، حتى صارت الأمة العربية هي أمة العلم والحضارة دون منازع. جمعت الثقافات المختلفة للشعوب من خلال عميلات النقل والترجمة، وأصبغت عليها الحس الأخلاقي والوازع الديني، فضلًا عن المؤلفات الدينية المختلفة في التفسير وعلوم القرآن، والعقيدة والفسلفة، والحديث وعلومه، والفقه وأصوله، واللغة وفروعها، والأدب والنقد، والتاريخ الإسلامي، والطب، والهندسة، والفيزياء، وغيرها، هذه الكتب وتلك التي صارت منارة يسترشد بها الغربيون وأصحاب الحضارات الأخرى في إقامة حضاراتهم، ونهضة ثقافاتهم. ولا أدل على ذلك من أن قيام حركة الاستشراق في الأساس كان قائمًا على قاعدة جمع كتب العالم الشرقي، تاريخه وآدابه وحضاراته وأديانه، حتى صارت باريس في القرن الثامن عشر حسب تعبير البعض: "كعبة يؤمها لعلماء من كل مكان".
نعم؛ إنها الحقيقة التي غفل عنها العرب والمسلمون حينما أثرت عليهم ماديات الحياة، فالغرب أصحاب حضارة الجهل وعدم المعرفة، صاروا عظماء أقوياء في مختلف العلوم العربية والإسلامية، بفضل كتب التراث التي خلفتها الدولة الأموية والعباسية. فقاموا على تحقيقها، ومقارنتها بغيرها للوصول إلى أصح الأقوال وأضعفها، ثم قاموا بترجمتها، وإخراجها للطباعة والنشر، وأنشأوا المعاهد والكراسي المختلفة لتدريسها، فصاروا أمة عظيمة بفضل تراثنا!!! وصرنا في المقابل ضعفاء لا نقوى على ثقافة أو علم، إلا إذا سافرنا إلى الغرب وتعلمنا على أيديهم في الغالب!!.
لم تكن المشكلة كامنة فقط في عدم وجود المراكز البحثية التي تهتم بالتخريج والتحقيق والتدقيق، ثم النشر والتوزيع، بل المشكلة كبيرة كبر الجهل ذاته، تارة في المناهج التعليمية المختلفة الهابطة، وتارة ثانية في عدم تشجيع الدول للتعليم وإثراء الحركة الأدبية، وتارة ثالثة في ضعف المنهج عند العلماء، فلا تجد عالمًا ملمًا بمختلف علوم الشريعة إلا قليل، وصار تخصص جزء الجزء حجة لكل جاهل، فيقول ما تخصصت إلا في كذا، وما درست إلا كذا، وهو مطلوب لا شك، ولكن بعد ترسيخ القاعدة الكبرى، وهو الإلمام بمختلف العلوم. ثم يأتي دور الطباعة والنشر في ترويج أعظم لمشكلة الجهل والتخلف، لا من خلال دورها، فهذا ما لا نقصده، بل من خلال ما تقوم على نشره!! فصارت دور النشر ربحية، يعمل عليها الوراقين المتمرسين لا أصحاب الخبرات أو المتخصصين الأكاديميين، إلا ما رحم الله من مراكز فقهية، ومجامع علمية صارت كاليد في بحر لُجّي، لا يكاد يراها المبصر، في ظل ركام كبير، وفساد طويل حلَّ على مجتمعاتنا، بين حزبية وعنصرية، وعنترية جوفاء!! فجاءت كثير من الكتب مبتورة، وأكثر التحقيقات مصطنعة، وأغلب المنشورات هي لدر الربح لا لبعث النهضة وإثراء المعرفة.
ومن هنا كانت فكرة هذه الشركة، مهارات المعرفة بالرياض، وأعيان العقارية بالقاهرة؛ تعمل على تنفيذ عدة مشاريع في التفسير وعلوم القرآن، وفي الأديان عقائد وأحكام، وفي ترجمة معاني القرآن، وهي مشاريع من فكر رئيس مجلس إدارة الشركة، وفيها كانت أبحاثه العلمية الأكاديمية. ثم يأتي مشروع النشر، وهو عبارة عن سلاسل، أهمها السلسلة العشرينية التي تجمع عشرين علمًا، في كل علم عشرين كتابًا، يسبق كل علم منها مدخل بمثابة مفتاح هذا العلم، من خلال لجنة علمية متخصصة، ليس ذلك فحسب؛ بل يتم الدعوة لإقامة المؤتمرات والندوات والمشاركة بأبحاث حول الموضوع الواحد، ليكون العالم كله مشاركًا في إعداد هذه السلسلة، فتجني ثمارها سريعا، ويعرفها القاصي والداني، ناهيك عن كونها سلسلة غير أحادية الفكر، ولا مذهبية التوجه. ثم تتوالى السلاسل تلو السلاسل إن شاء الله على نفس المنهج، وفي نفس الطريق، للوصول إلى الهدف المنشود، وهو إحياء علوم الأمة، وإثراء الحركة الأدبية والمعرفية، طباعة وبرمجة.